واصلت فرنسا تحركاتها المكثفة تجاه ليبيا لدفع عملية التسوية السياسية للأزمة الليبية، وذلك بزيارة وزير الخارجية الفرنسي "جان إيف لودريان" إلى ليبيا في 4 سبتمبر 2017 على رأس وفد ضم السفيرة الفرنسية لدى ليبيا "بريجيت كرومي" وعدد من المستشارين السياسيين بوزارة الخارجية الفرنسية، التقى خلالها عدد من الأطراف الرئيسية في الأزمة الليبية في المنطقتين الشرقية والغربية. وكانت العاصمة الفرنسية باريس قد استضافت في 25 يوليو 2017 لقاء جمع رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني "فائز السراج" بقائد الجيش الوطني الليبي في الشرق المشير "خليفة حفتر" برعاية الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" والذي تمخض عنه اتفاق "لاسيل سان – كلو" لتسوية الأزمة السياسية في ليبيا، وذلك في إطار مسعى فرنسا لتعزيز دورها في تسوية الأزمة الليبية.
جهود الوساطة الفرنسية:
قام "لورديان" بزيارة أربع مدن رئيسية في ليبيا وهي العاصمة "طرابلس" حيث مقر حكومة الوفاق الوطني الليبية و"مدينة مصراتة" التي تعد أكبر داعم للتيار الإسلامي في ليبيا واللتان تقعان في المنطقة الغربية، ومدينتي "بنغازي" و "طبرق" الواقعتين في المنطقة الشرقية حيث مقر الحكومة الليبية المؤقتة برئاسة "عبد الله الثني" التابعة لمجلس النواب في طبرق ومقر الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير "خليفة حفتر". وقد تم خلال هذه اللقاءات بحث تطورات الأزمة الليبية ودور الوساطة الفرنسية للوصول إلى تسوية سياسية للأزمة الليبية في إطار مخرجات لقاء باريس الذي عقد بين السراج وحفتر في يوليو الماضي.
فقد التقى "لورديان" خلال زيارته لمدينة مصراتة بالمجلس البلدي والتجمع السياسي لنواب مصراتة وعدد من القادة العسكريين والأمنيين في مدينة مصراتة من بينهم ممثلين عن عملية "البنيان المرصوص" التي قادت تحرير مدينة سرت من تنظيم داعش، وأكد لورديان خلال لقاءاته في مدينة مصراتة على أن مصراتة جزء من الحل في ليبيا وأن لها دور أساسي في تنفيذ اتفاق باريس مشيداً بالدور الذي قامت به المدينة في تحرير مدينة سرت من تنظيم داعش، مبدياً استعداد فرنسا تقديم المساعدة في نزع الألغام وتأهيل مصابي المعارك.
فيما قابل خلال زيارته للعاصمة طرابلس رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني "فائز السراج" ووزير الخارجية بحكومة الوفاق "محمد سيالة"، حيث تم مناقشة اتفاق باريس وأكد السراج على التزامه بما تضمنه الاتفاق، كما تم بحث الخطوات العملية لدعم كل من حرس الحدود وخفر السواحل والحرس الرئاسي، واقترح لودريان خلال لقاءه السراج عقد منتدى اقتصادي فرنسي – ليبي في العاصمة طرابلس قبل نهاية العام الجاري، معلناً عن تقديم مليون يورو لصندوق تحقيق الاستقرار الذي يعمل تحت إشراف الأمم المتحدة لدعم مشاريع خدمية في ليبيا.
كما التقى لودريان أيضاً خلال زيارته لطرابلس بوزير الداخلية في حكومة الوفاق الوطني "العارف الخوجة" حيث تم مناقشة عدداً من القضايا الأمنية وعلى رأسها ظاهرة الهجرة غير الشرعية وسبل معالجتها والحد منها من خلال الاهتمام بمراكز الإيواء داخل ليبيا، بالإضافة إلى رئيس المجلس الأعلى للدولة "عبد الرحمن السويحلي"، حيث تم مناقشة مخرجات لقاء باريس والاتفاق على ضرورة نبذ العنف والتمسك بالحل السياسي.
وخلال زيارته للمنطقة الشرقية، اجتمع "لورديان" مع رئيس مجلس النواب في طبرق "عقيلة صالح" حيث تم الاتفاق على ضرورة الإسراع في تطبيق ما جاء في اتفاق باريس الناتج عن لقاء حفتر والسراج في باريس في 25 يوليو الماضي بما يحقق الاستقرار في ليبيا، وتناقش مع قائد الجيش الوطني الليبي في الشرق المشير "خليفة حفتر" حول اتفاق باريس وكيفية تنفيذه على الأرض.
دوافع زيارة "لودريان":
جاءت زيارة وزير الخارجية الفرنسي"لودريان" إلى ليبيا لتحقيق مجموعة من الأسباب يتمثل أبرزها فيما يلي:
1- دفع الأطراف الليبية إلى تطبيق اتفاق "لاسيل سان – كلو" الذي تمخض عن لقاء السراج وحفتر في العاصمة الفرنسية باريس في يوليو 2017، والذي أبرز ما جاء فيه وقف إطلاق النار وتوحيد المؤسسة العسكرية والعمل على إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة.
2- حشد مزيد من الدعم وتوسيع دائرة التأييد لاتفاق "لاسيل سان – كلو" بين السراج وحفتر لتسوية الأزمة الليبية، من خلال إقناع مزيد من الأطراف الليبية الرئيسية التي لم تكن متواجدة في لقاء باريس بتأييد الاتفاق بما يدفع في النهاية نحو إمكانية تنفيذه وتحقيق هدفه الأساسي المتمثل في منع تجدد الحرب الأهلية في ليبيا والتي تؤثر بالسلب أمن أوروبا بسبب تدفق مزيد من المهاجرين غير الشرعيين انطلاقاً من الشواطئ الليبية.
يضاف إلى هذا تداعياتها على المصالح الفرنسية في منطقة الساحل والصحراء بصفة خاصة وجهودها في مكافحة الإرهاب هناك، خاصة وأن التنظيمات الإرهابية تستغل الفوضى في ليبيا لإقامة معسكرات التدريب والإعداد لشن عمليات إرهابية في أوروبا ومنطقة الساحل والصحراء.
3- قلق فرنسا من تزايد الحضور الروسي في شرق ليبيا، وأن الدعم الروسي لحفتر قد يدفعه لمراجعة تعهداته السابقة وعلى رأسها تلك الواردة في اتفاق باريس، بإيقاف العمليات العسكرية وإعطاء فرصة لتسوية الأزمة الليبية سياسياً من خلال الحوار وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة، خاصة وأن حفتر قد استغل زيارته الأخيرة لروسيا في شهر أغسطس الماضي وانتقد السراج لإخلاله بالكثير من المبادئ التي تم الاتفاق عليها وإعلانه مواصلة القتال حتى تحرير كافة أراضي ليبيا، فضلاً عن الانتقادات غير المباشرة التي وجهها وزير الخارجية الروسي "لافروف" خلال استقباله حفتر للوساطة الفرنسية بمطالبته بضرورة تولي الأمم المتحدة الإشراف على كافة جهود الوساطة والتأكيد على ضرورة توصل الليبيين إلى حلول بأنفسهم من دون تأثيرات خارجية.
التنافس الأوروبي على ليبيا:
أدت زيارة وزير الخارجية الفرنسي الأخيرة إلى تصاعد التنافس الإيطالي – الفرنسي حول ليبيا، ففي اليوم التالي لزيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى ليبيا قام وزير الداخلية الإيطالي "ماركو مينيتي" في 5 سبتمبر بزيارة إلى مدينة بنغازي الليبية التقى خلالها بالمشير خليفة حفتر وذلك بعد شهور من التوتر بين حفتر وإيطاليا على خلفية دعمها السياسي والعسكري لحكومة الوفاق الوطني ومدينة مصراتة، ويعد ذلك تحولاً في موقف إيطاليا التي كانت تركز معظم تحركاتها في السابق على غرب وجنوب ليبيا.
وتخشى إيطاليا أيضاً من وجود تفاهمات فرنسية – بريطانية ضد مصالحها في ليبيا وذلك على خلفية زيارة وزير الخارجية البريطاني "بوريس جونسون" إلى ليبيا في 23 أغسطس الماضي التقى خلالها المشير حفتر في بنغازي، حيث دعا "جونسون" حفتر" إلى الالتزام بالتعهدات التي قطعها خلال اجتماع باريس في 25 يوليو الماضي.
كما التقى جونسون أيضاً رئيس المجلس الرئاسي "فائز السراج" ورئيس المجلس الأعلى للدولة "عبد الرحمن السويحلي" في العاصمة طرابلس، وزار "جونسون" مدينة مصراتة والتقى خلالها أعضاء المجلس البلدي للمدينة وممثلين عن التجمع السياسي ومجلس أعيان المدينة، وتم بحث كيفية تحريك العملية السياسية بما يساعد على تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد.
وقد أعلن "جونسون" خلال زيارته الأخيرة عن حزمة مساعدات بريطانية إلى ليبيا بقيمة 9 مليون جنيه إسترليني للتصدي لخطر الإرهاب ومعالجة مسألة الهجرة غير المشروعة ولإعادة إعمار ليبيا، كما تفقد جونسون خفر السواحل الليبي الذين يتم تدريبهم من قبل المملكة المتحدة.
وقد عكست هذه التحركات الفرنسية والبريطانية والإيطالية في ليبيا نوع من تضارب المصالح والتنافس الأوروبي على النفوذ في ليبيا، ففي الوقت الذي تسعى فيه إيطاليا لتعزيز نفوذها في الجنوب الليبي وكسب موطئ قدم مستدام لها هناك من خلال رعاية المصالحات بين القبائل الليبية في الجنوب وتمويل ميليشيات مسلحة للتصدي لعمليات الهجرة غير الشرعية، ترى فرنسا أن ذلك يقوض نفوذها التقليدي في منطقة الساحل والصحراء.
وترى إيطاليا أنه يجب تركيز وتكثيف قنوات الاتصال مع حكومة الوفاق الوطني في العاصمة طرابلس والقوى الداعمة لها وللاتفاق السياسي الليبي كمدخل لحل الأزمة الليبية، في حين تؤكد فرنسا وبريطانيا أن مزيد من التواصل والانفتاح على قائد الجيش الليبي في الشرق "خليفة حفتر" سيساهم في دفع عملية تسوية الأزمة الليبية.
وفي مسعى لتنسيق الجهود الأوروبية لدفع التسوية السياسية في ليبيا، فقد شهدت العاصمة البريطانية لندن في 13 سبتمبر الجاري اجتماعاً حضره وزراء الخارجية دول وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ومدير الشؤون السياسية الفرنسي بالإضافة لوزيري خارجية الإمارات ومصر، وبحضور المبعوث الأممي إلى ليبيا "غسان سلامة"، وذلك بناء على دعوة بريطانية لبحث كيفية تنسيق الجهود والمبادرات الأوروبية والشرق أوسطية لدفع التسوية السياسية في ليبيا والحيلولة دون تضاربها، فضلاً عن دعم جهود مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا "غسان سلامة" لتسوية الأزمة الليبية والذي أبدى امتعاضه من تعدد مبادرات السلام الأوروبية والشرق أوسطية تجاه ليبيا والتي اعتبرها تعيق عمله في تسوية الخلاف في البلاد.
وختاماً، فإن زيارة وزير الخارجية الفرنسي الأخيرة إلى ليبيا ولقاءاته في مصراتة أكبر داعم للتيار الإسلامي في ليبيا وفي مدينة بنغازي تستهدف بالأساس توسيع دائرة القبول للوساطة الفرنسية بين مختلف الأطراف الليبية بما في ذلك تلك المحسوبة على التيار الإسلامي وتوسيع دائرة النفوذ الفرنسي باتجاه الغرب الليبي بعدما ركزت فرنسا تحركاتها في الماضي على الشرق الليبي وقدمت دعماً سياسياً وعسكرياً لخليفة حفتر، فضلاً عن مزاحمة فرنسا للنفوذ الإيطالي المتصاعد في ليبيا خاصة في المنطقتين الغربية والجنوبية والذي تنظر إليه فرنسا على أنه تقويضاً لنفوذها في ليبيا بصفة خاصة ومنطقة الساحل والصحراء بصفة عامة.
وفي هذا الإطار، فمن المرجح مواصلة فرنسا خلال الفترة المقبلة تحركاتها المكثفة تجاه ليبيا بالاتجاه نحو الحصول على دعم دول الجوار الليبي والأطراف الإقليمية المنخرطة في الأزمة الليبية للوساطة الفرنسية بما يصب في النهاية في صالح تعزيز الدور الفرنسي في ليبيا. كما أنه من المرجح تزايد حدة التنافس الأوروبي وتحديداً الفرنسي – الإيطالي في ليبيا خلال الفترة المقبلة، الأمر الذي من شأنه أن يشكل تقويضاً لجهود الحل السياسي للأزمة الليبية مالم يتفق الأوروبيون على صيغة توافقية حول تسوية الأزمة الليبية تراعي مصالحهم المختلفة في ليبيا.